جدلية العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران لا تنتهي, على خلفية البرنامج النووي الذي تدعي الثانية أنه لأغراض سلمية, بينما تؤكد الولايات المتحدة أنه في نهاية المطاف سيجعل طهران في النادي النووي بعد عدة سنوات كفيلة بامتلاكها القنبلة النووية.
فأحياناً تشتد هذه العلاقة وترتفع درجة التصعيد حتى ليتخيل المتابع أنه قاب قوسين أو أدنى من هجوم أمريكي على هذه المنشآت النووية الإيرانية لدكها, وإعادة طهران إلى ما قبل نقطة الصفر في التكنولوجيا النووية, وربما يمتد الأمر لمحاولة تغيير البنية السياسية الأيدلوجية لهذا البلد على نحو ما تم في العراق.
ثم لا تلبث الحرارة أن تنخفض تدريجياً,وتعود الولايات المتحدة إلى لغة الحوار والمفاوضات والعقوبات الاقتصادية الرخوة, وتمضي إيران في برنامجها النووي معلنة بين الحين والآخر عن إحراز تقدم في هذا المضمار يقربها خطوات من هدفها ويقطع الطمع في إعادتها إلى حظيرة الطاعة الغربية.
وتكاد هذه الجدلية تنطبق على وضعية "إسرائيل" وتعاطيها مع هذا الملف النووي الإيراني, فنبرة تصاعدية, وتهديد مفتوح بتدمير البنية النووية الإيرانية باعتبارها الخطر الداهم على أمن "إسرائيل", ثم تلزم القيادات "الإسرائيلية" مكانها في هدوء مريب, وتمضي إيران في برنامجها النووي المخطط الذي لا يفصلها عن نهايته إلا أشهر معدودات.
وقد حمل الأسبوع الأخير خبرين, لهما دلالة بينة على توجهات الإدارة الأمريكية و"الإسرائيلية" ونيتهما المتعلقة بهذا الملف النووي الإيراني.
الخبر الأول: من الولايات المتحدة, حيث أعلن وزير الدفاع الأمريكي روبرت جيتس أنه يعتقد أن توجيه ضربة عسكرية لإيران لن يحقق الأهداف المرجوة، محذراً من أن الإقدام على مثل هذه الخطوة قد يدفع إيران إلى فرض مزيد من السرية على نشاطاتها النووية.
وقال جيتس أمام إحدى لجان مجلس الشيوخ الأمريكي: "يتوجب على الولايات المتحدة وحلفائها إقناع حكومة طهران بأن مشروعها النووي سيجعل إيران أقل أمناً وسيؤدي إلى تسريع سباق التسلح عالمياً".
وشدد وزير الدفاع الأمريكي على أهمية التأكد في البداية من عدم جدوى خيار العقوبات للضغط على حكومة طهران اقتصادياً ودبلوماسياً، وإجبارها على ترك مصالحها النووية طوعاً.
الخبر الثاني: من "إسرائيل", حيث صرح الرئيس "الإسرائيلي" شيمون بيريز، بأنه يمكن احتواء إيران مُسلحة نووياً عبر التهديدات بالانتقام النووي.
وفي كلمة متلفزة حول الخيارات المتاحة للتعامل مع إيران، قال بيريز "أول شيء هو أن نقول للإيرانيين إذا استخدمتم سلاحاً نووياً أياً كان ضد من فإنكم ستتلقون رداً نووياً".
وأضاف أن "مهاجمة المنشآت النووية ببساطة ليست هي كل شيء ونهاية كل شيء"، موضحاً أنه "يمكنك أن تدمر أجهزة الطرد المركزي (لتخصيب اليورانيوم) لكن لا يمكنك تدمير المعرفة ببناء أجهزة الطرد المركزي".
وكان بيريز قد وصف، مؤخراً الحديث عن شن هجوم "إسرائيلي" على إيران بأنه "سخافات"، وذلك على الرغم من تهديده السابق بضرب إيران إذا ما فشلت الدبلوماسية الأمريكية في إقناعها بوقف نشاطاتها النووية.
والخبران يحملان دلالات سياسية متعددة لعل أهمها:
أولاً: اتفاق الولايات المتحدة و"إسرائيل" على التعاطي بصورة واحدة مع النووي الإيراني, وأنه لا خلاف بينهما البتة في هذا الشأن, كما في غيره من الملفات المتعلقة بتطور الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط.
ثانياً: استبعاد الخيار العسكري لتحطيم القدرة النووية الإيرانية, بل وقد استبعد وزير الدفاع الأمريكي أن تؤتي العقوبات الاقتصادية اللينة بتأثير يذكر على إيران.. فلا هجوم عسكرياً.. ولا عقوبات.. والتعاطي سياسياً مع هذا الملف.
إذاً يبقى السؤال: ماذا تريد الولايات المتحدة و"إسرائيل", وكيف يتعاملان مع الملف النووي الإيراني؟!
وضعت الولايات المتحدة و"إسرائيل" طريقين لمعالجة هذا الملف النووي الإيراني:
الأول: مقايضة النووي الإيراني بـ"دولة فلسطينية"
فقد سُربت في الآونة الأخيرة تقارير أمريكية تحدثت عن مقترحات أمريكية ـ "إسرائيلية" تطالب بربط الملف النووي الإيراني بما يسمى عملية السلام بين العرب و"إسرائيل".
والمعلومات القليلة التي تسربت عن الجولة الأخيرة التي قام بها السناتور جورج ميتشل مبعوث السلام الحالي في الشرق الأوسط، أفادت أن الرجل ناقش 'أفكار الربط' هذه مع مسؤولين وزعماء عرب التقاهم، كما أن العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني بحث المسألة نفسها مع الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما عندما التقاه مؤخراً في البيت الأبيض، ما يضيف تأكيدات جديدة على مدى جدية التحرك الأمريكي في هذا الخصوص.
ومما يدعم هذا التوجه, كذلك, تراجع وزير الخارجية "الإسرائيلي" اليميني المتطرف أفيجدور ليبرمان عن تصريحاته النارية تجاه إيران, مؤكداً أن "إسرائيل" لن توجه أي ضربة عسكرية لإيران حتى لو فشلت العقوبات الدولية في ثنيها عن برنامجها النووي، وذلك بعدما وضع المشكلة الإيرانية في مقدمة أولوياته، وربط بينها وبين القضية الفلسطينية، مؤكداً أنه من المستحيل حل القضية الفلسطينية دون الملف الإيراني.
الثاني: القبول بـ"إيران نووية"
فالولايات المتحدة و"إسرائيل" يمكنهما القبول بـ"إيران نووية", على أن يكون التعامل معها مستقبلاً بأسلوب الردع المتبادل, إذا فشلت كل المحاولات الأخرى لوقف هذا البرنامج.
وهذا واضح وجلي من التصريحات السابقة للرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز, وتصريحات وزير الدفاع الأمريكي روبرت جيتس.
ويبقى السؤال عن تأثير كلا الخيارين في الدول العربية وفي قضايا المنطقة؟
تلاحظ في البداية أمرين:
الأول: أن الإدارة الجديدة طورت أفكارها الجديدة هذه دون أي تنسيق مع الأطراف العربية, على اختلاف توصيفها (ممانعة واعتدال).
الثاني: أن أي تفاهم استراتيجي أمريكي ـ إيراني في حال التوصل إليه سيكون على حساب الدول العربية عامة، والخليجية منها على وجه الخصوص,والتي هي مطمع للنفوذ الفارسي الإيراني.
ولا شك أن كلا الخيارين علقم تتجرعه الدول العربية, لأنه ببساطة شديدة خالية من التعقيد سيتوج إيران زعيمة إقليمية، وحليفاً أساسياً للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، إلى جانب, بل وبموافقة "إسرائيل" ما يعني المزيد من التهميش للأنظمة العربية.
فإيران المسلحة نووياً, أو إيران التي تمكنت دون مبادرات سلام مُذلة من إنشاء دولة فلسطينية سيضعها بالقوة في قيادة المنطقة، ويهمّش دور الدول العربية.
أي أن الأنظمة العربية ستجد نفسها في وضع محرج، وخارج سياق اللعبة تماماً، فكيف سيكون موقفها في حال قبول إيران بالعروض الأمريكية هذه، ونجاحها في إقامة دولة فلسطينية مستقلة، أو نجاحها في الفوز بالقنبلة النووية؟
وإذا كان من المستبعد أن تقبل إيران بالمقترحات الأمريكية ـ "الإسرائيلية" بالربط بين مفاعلها النووي وقيام دولة فلسطينية، لأسباب عدة, فستمر سحابة الخداع الأمريكية لنرى من بعدها إيران نووية, تكشر عن أنيابها وتمد مخالبها أينما أرادت.